أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

آخر المقالات

المقالات

الجمعة، 9 يناير 2015

سَمَر الخميس: ثلاثيات حارس التبغ..

حامد الناظر
"عنوان هذه الرواية -حارس التبغ- مأخوذ من ديوان "دكان التبغ" للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا حيث تلتبس حياة واحدة بثلاث شخصيات، يقدم بيسوا في هذا الديوان ثلاث حالات تقمص، كل شخصية من هذه الشخصيات المخترعة هي وجه من وجوه بيسوا نفسه، مقدماً لكل واحدة منها اسما خاصاً وعمراً محدداً وهوية مختلفة وقناعات مغايرة، وهو ما سيحدث مع بطل الرواية الذي استلهم أقنعة شخصياته الثلاث التي عاش بها طوال ثمانين عاماً من هذا الديوان لنجد أنفسنا فجأة امام رسم تكعيبي ثلاثي لوجه واحد"..!
ثلاثية الوجود
"حارس التبغ" هي حكاية الموسيقار العراقي كمال مدحت الـ "ثلاثية الأبعاد" في كل أشكالها الثابتة والمتحولة، والذي وجد مقتولاً في خضم فوضى الموت المجاني في العراق عام 2006، ثم ورد خبر موته مقتضباً ودون تفاصيل كثيرة في بعض الصحف العراقية والوكالات وكاد أن يطويه النسيان، حتى نشرت صحيفة "توداي نيوز" الأمريكية خبراً عن أصله اليهودي ومقتطفات من حياته اللاحقة..
ومن هنا بدأت الحكاية الغريبة والمعقدة لتصل من خلال أطرافٍ كثيرة إلى فضول الصحفي والروائي العراقي علي بدر وتتكشف على يديه بعد ذلك خيوط أغرب قصة لأقدم متلازمة ثلاثية في الوجود "الإنسان - الهوية - المكان"..
ثلاثية الهوية
بطل الرواية -كما في الواقع- هو الموسيقار العراقي كمال مدحت الذي مات وهو يحمل هوية مسلم سني، وهو نفسه قبل خمسة وثلاثين عاماً حيدر سلمان المسلم الشيعي، وقبل ذلك بنحو ثلاثين عاماً أخرى هو يوسف سامي صالح من عائلة قوجمان اليهودية التي هُجرت من العراق في أوائل الخمسينيات إلى تل أبيب..
تتشابه حكايته مع حكاية شخصيات ديوان دكان التبغ للشاعر البرتغالي والذي استوحى منه علي بدر اسم الرواية، وقد وجد هذا الديوان في صالون كمال مدحت في بيته بحي المنصور في بغداد وقد كتب شروحاً بقلم الرصاص على هوامش الكتاب..
لكن كيف حدث هذا؟ كيف حدث المزج السلس والهادئ لهذه الهويات الثلاث التي تختزل كل مآسي الحرائق والدماء التي سالت وتسيل في هذا الشرق الأوسط المليء بالجنون؟ هل حاول الرجل أن يؤكد -دون وعي- بإمكانية انصهار هذا الجنون في ذاتٍ مجنونة واحدة ثم لا ينفجر؟ كيف استطاع أن يعيش بهذه الهويات الثلاث في مدينة واحدة وبصفة وحيدة لا غيرها "موسيقِي" لما يقرب من ستين عاماً؟
ثلاثية الخوف
الجمهور هو السبب! هكذا تقول الرواية، وتضيف رسائل كمال مدحت إلى زوجته اليهودية في القدس أن العنف الذي يولده هيجان الغوغاء حين تختفي -في لحظة الثورات العمياء- كل الفروق الكبيرة ويصطف الكل جسماً واحداً تحركه إشارة وتوقفه أخرى، هو النتيجة الكارثية لحقن الأيديولوجيات في أجساد الشعوب دون وعي..
الفتى العشريني البريء يوسف سامي، المحب للموسيقى، المقبل على الحياة بحسن ظنٍ عريض قتل الغوغاء خالته مسعودة وأم محبوبته الأولى أمام ناظريه حرقاً، كما قتل وسحل المئات من يهود العراق في واحدة من هبات الشعوب التي تسمى ثورات وكان ذلك عام 1941، فاستقرت في ذهنه لاحقاً متلازمة ثلاثية مرعبة ما أن يراها تجتمع مع بعضها حتى يعتزل كل شيء ويعتكف بصحبة ألمه النفسي العميق وهي "الأيديولوجيا-الجمهور-الاهتياج"..
"الجماهير خطر، إنها رعب حقيقي، لأنها تمثل انفلات السلوك العقلاني، هذه الجماهير ضد النقد، فكرها غير مفهومي بالمرة، تفكيرها وحركاتها تشتعل بواسطة المصادفة والتحول.. إنها لا تفكر، انها تهتاج وتتحسس، فهي تجمع الأشياء الأكثر تنافراً، وتماهي الكل مع الجزء، كلمة واحدة كافية أن تجعل هذه الجماهير مثل فيل يدخل في منزل من زجاج"..
بعد موت خالته هُجر معظم يهود العراق إلى بلقعٍ موعود كان اسرائيل، هاجر مع زوجته فريدة روبين وابنه مئير لكن روحه لم تنسجم أبداً مع الحياة التي انتظرته هناك، شعر ومنذ اليوم الأول باختناق روحه بسبب خوائها العريض وهيمنة الأشكيناز واستعلائهم على اليهود المشارقة فيها، فهاجر إلى موسكو ومنها -بمساعدة الشيوعيين- إلى إيران بجوازٍ مزور لمسلمٍ شيعي هو حيدر سلمان وهناك تزوج من طاهرة ابنة التاجر الشيعي الداعم لليسار اسماعيل الطبطبائي، فأنجب منها ولده الثاني المسلم الشيعي حسين، دخل بغداد مجدداً عام 1958 بعد انقلاب عبد الكريم قاسم بهذا الاسم الجديد وبصفته القديمة ذاتها "موسيقي"، وعاش ضمن النخبة اليسارية في الفترة التي شهدت مجد اليساريين في كل أرجاء العالم حتى قام صدام حسين بانقلابه على البعث القديم وقامت بعد ذلك بسنة الثورة الإيرانية وسرت حمى الحرب وهيجان الغوغاء من جديد فهُجر من بغداد ضمن من هجروا ورمي وزوجته وولده على الحدود الإيرانية على أنهم من التبعية الإيرانية، ماتت زوجته طاهرة قبل دخول طهران فقرر أن يترك ابنه حسين هناك ليبدأ محاولة جديدة للعودة إلى عشقه الأبدي بغداد وناسها ومسارحها وموسيقاها التي تنبض في دمه..
مرة أخرى تلعب الأقدار لعبة جديدة لصالحه، يتعثر بمن يمد له يد المساعدة، توضع صورته على جواز تاجر مسلمٍ سُني هو كمال مدحت الذي مات في حادث سير في طهران، فطار به إلى دمشق حيث توجد أرملته الثرية نادية العمري والتي تقبلته كزوجٍ مكان زوجها المفقود دون أن تبدي أي أسف، أي اهتمام، مثلما يبدل السائق إطار سيارته ويمضي ليكمل مشواره، وهكذا عاد إلى حي المنصور في بغداد ليرث حياة ثلاثية أخرى كانت تنتظره فاتحة ذراعيها وهي تاريخ كمال مدحت -زوجته- وبيته، أنجب منها ولده الثالث عمر المسلم السني الذي هاجر فيما بعد إلى مصر خلال سنوات الحصار، ومرة ثالثة هيأت له الأقدار من يحمله إلى أعلى سلم المجد والشهرة، إلى بلاط صدام حسين..
ثلاثية الغرس
عاش كمال مدحت في بغداد حياة حافلة بالنجاحات والمتع، حقق خلالها كموسيقى مجده الذي طالما تمناه ولبس من أجله أقنعة كثيرة إلى أن سقطت بغداد تحت وابل القصف الأمريكي، فجاءه أبناؤه الثلاثة دفعة واحدة، ثمرات هوياته المتحولة كلها، جاء ابنه اليهودي مئير ضابطاً في قوات المارينز الأمريكية ضمن قوات الاحتلال، وابنه الشيعي حسين من طهران ضمن النخبة الشيعية الجديدة التي ستحكم البلاد، وكذلك ابنه المسلم السني عمر قادماً من القاهرة ضمن الطليعة السنية المعارضة، فأصبح وجهاً لوجه أمام تاريخه، أمام مرآة تكعيبية رأى فيها نفسه بوجوهٍ ثلاثة..
ثلاثية الحب
لم يجد علي بدر -وهذا استخلاص مني- ما يفسر كل ما أقدم عليه بطل الحكاية وخاض بسببه غمار ذلك الجنون سوى الحب، حب ثلاثي أيضاً، لكنه كان في خياله متصلاً أبداً وغير منفصل، بدءاً من شخصيته الأولى وانتهاءً بالأخيرة وهو الأمر الثابت الوحيد في كل حياته المليئة بالتحولات والتقلبات، الثابت الذي لم تستطع كل هيجانات الثورات التي دمرت كل شيء أن تدمره، وذلك لسببٍ بسيط هو أنه كان مؤمناً به، مطموراً في بقعة بعيدة في نفس ذلك الموسيقي الملهم الذي دُمرت حياته مرات عديدة من الخارج لكنها في داخله كانت شيئاً واحداً، صلباً، ممتلئاً بحب ذي أبعاد ثلاثة "بغداد-الموسيقى- الحياة"..
من خلال سيرة يوسف أو حيدر أو كمال كان واضحاً أنه لم يؤمن بشكل واضح بدينٍ أو فكرة أو أيديولوجيا، أو وطن، بل كان يسخر من كل ذلك، وتشهد على ذلك النزوع الغريب رسائله التي لم تنقطع حتى وفاته إلى زوجته الأولى فريدة روبين في القدس..
"لم تتسم حياتي يوماً بالروح الوطنية الساذجة، بل كنت أكره هذه المشاعر جداً، فهي مصدر العنصرية والكراهية"..
فريدة روبين أصبحت فيما بعد أستاذة للأدب العربي في جامعة القدس بإسرائيل، استفاد علي بدر من الرسائل التي احتفظت بها لزوجها في تتبع خيوط حياته الغريبة ومحطاته المتأرجحة بين الموت والحياة والشك واليقين والمتع واللذة والألم والسخرية..
علي بدر قدم بيوغرافيا رائعة، وهبها كثيراً من خياله الخصب ولغته الجذلى، وأمتعنا بصور تلك الكاميرا غير المرئية التي ثبتها بمهارة في مكانٍ ما في جسد كمال مدحت ثم عندما استخرج جثته من احد مشافي بغداد ليدفنه في مقبرة الكرخ، أخرجها برفق ونزع الفيلم الذي ثبته فيها قبل ثمانين عاما وأهدانا ما فيه لكي نرى ونسمع ونعيش الحكاية تماماً كما حدثت وربما أفضل..
ولا أظن أن الروائي علي بدر كتبها لأنه اختارها بل لأنها اختارته لأسباب ثلاثية أيضاً، تجربته الصحفية الفريدة في العراق - جرأته - وما نستحقه نحن معشر القراء من نصوص بديعة..




 حامد الناظر

شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

إرسال تعليق