أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

آخر المقالات

المقالات

الخميس، 18 ديسمبر 2014

سَمَر الخميس: فَشُودَة، حكايةُ الرّق والرّقِيق

حامد الناظر
هي ببساطة حكاية "علي جفون" المحاربِ النبيل، والجندي الشجاع والقائدِ الحكيم أيضاً، مثلما هي حكاية "نيابو" الطفلِ الشُلْكاوي الذي انتُزع من مدينته ومسقطِ رأسه "فشودة"، خرج منها محمولاً على ظهر الصبيّة "شول" وهي التي كانت تقول له دائماً: 
"
لا تقف أبداً بين فرس النهر والنهر، وإذا رأيت فرسان "البَقّارة" يركضون نحوك فلا تتردد من أن تلقي بنفسك في النهر".
لكنه عجز عن ذلك بسبب الحمى وصغر السن، واقتيدا سوياً إلى مدينة "تلودي"، ثم ضاع أثر الصبيّة في رحلة العبودية المجهولة وأصبح نيابو جندياً في الجيش المصري، بالصدفةِ المحضة..
وفي الرحلة القصيرة بين الرّق والجندية خُتن نيابو على طريقة المسلمين وليس على طريقة أهله الشُّلُك، سُمي عَلياً وأضيف اسمه إلى اسم سيّده "جفون" قبل أن يتنازل عنه -بزهد- إلى الحكومة التركية-المصرية ليصبح الجندي علي جفون، ثم تنازلت له الحياة عن بعض كبريائها فترقى سريعاً في سُلَّم الرتب -العصي على أمثاله- إلى أن بلغ رتبة الميجور في الجيش المصري وعاد إلى فشودة بعد خمسين عاماً من الغياب القسري، مساعداً للسردار هربرت كتشنر وهو أقوى شكيمة وأكثر حكمة: 
"
وعلى الرغم من أن حياته لم تكن كما يريد، فقد نجح، ضمن إطار هذا اللباس العسكري الذي حرره واستعبده في آن واحد، في أن يصنع لحياته معنى وأن يضع لها غاية".
وما بين ذلك الخروج المهين من فشودة والعودة الظافرة إليها تقع القصة الكبيرة..
الرواية هي قصة الرّق في السودان كما لم تُكتب من قبل، وإن شئت هي من ذلك النوع الملحمي، نسجها كاتبها الدكتور أحمد حسب الله الحاج بحذقٍ، وحشد لها من معرفته المذهلة بالتاريخ والجغرافيا وأحوال الدول والشعوب والقبائل الشيء الكثير، ثم استخدم مهارته في السرد وتطويع اللغة وبناء الشخصيات ليقدم لنا "علي جفون" كـ (شاهد ملك) على أحداث عصره وآلام بني جلدته، وكذلك على مآلات الصراعات من أجل النفوذ واقتسام المستعمرات في القرن التاسع عشر وقيام الدولة المهدية وانهيارها، وما وقع من أحداث كبيرة ومعارك في تلك الحقبة المضطربة دون أن يقع في فخ رواية التاريخ، رغم أنها روايته الأولى حسبما علمت..
لكنّ ذلك ليس كل شيء، فالمدهش في الرواية كثير، وأوله بناؤها السردي الجميل، تبدأ مثلما تبدأ مائة عامٍ من العزلة بمشهد أورليانو المحارب أمام كتيبة الإعدام ثم تعرج إلى طفولته وصعوده وتراكم الأحداث من حوله إلى أن تعود إلى ذات المشهد بعد إخماد الثورة، وهكذا تبدأ الرواية بمشهد الباخرة سلطان المتجهة من الخرطوم -بعد سقوط الدولة المهدية- إلى فشودة وهي تحمل علي جفون وكتشنر وآخرين، ثم تروي لنا حكايته العريضة التي هي في جوهرها حكاية إنسان بسيط، أحدث أثراً لا بأس به في حدود العالم الذي تحرك فيه، لكنّ ذلك العالم أثر في حياته بشكلٍ يكاد يكون شاملاً، كما أنها حكاية الإنسان مع القدر وتقلبات المصائر في معناها الواسع..
أخذتنا شرقاً إلى كَسَلا وحصارها على يد عثمان دقنة القائد المهدوي، وفرسان سبدرات وألقدين وبني عامر والسيد الحسن مروراً بإرتريا والباريا والبازا وبلين وموقعة غونديت، وكرن ومصوع وأماتري، ثم سواكن وفرسان الهدندوة والأمرأر والتيب وهندوب والتاماي ثم جدة ومصر وفرنسا والمكسيك، ثم مصر مرةً أخرى وحملة كتشنر وانهيار الدّولة المهدية فالعودة إلى فشودة، ليكتمل المشهد الذي بدأت به الرواية وتلتحم أطراف الدائرة من جديد وقد اكتسب بطلها حكمةً عميمةً في تجواله الطويل، ليقف مع كتشنر ومارشان والرث والزعيم داك والأسطورة نياكانق كتفاً بكتف وقد عجنته حياة الجندية وعلمته، رغم جحود عصره وقلة حظ لونه..
علي جفون لم يكن يعتمد القراءة أو التلقين أو أي شيء آخر وسيلة للتعلم، وإنما الملاحظة والتجربة والمعايشة المباشرة، وبالتالي حيثما حملته الأقدار كان يكتشف ذاته والعالم من حوله ويتعلم، وهو في الحقيقة يكشف لنا ما أراد لنا (الكاتب) أن نعرفه في تلك الرحلة الطويلة التي أخذته هو وبعض زملائه الآخرين إلى مصر وإرتريا وأثيوبيا وفرنسا والمكسيك فضلاً عن أقاليم السودان الأخرى، وهو موضوع الحكاية، الرّق والرقيق، لكن بطريقة جذابة ومحايدة وموغلة في الحرفية: 
"
أسماء مثل حديد فرحات وبهجت سرور وفرح عزازي وفرج الزين، أسماء اتخذوها كتعويذات تطرد عنهم ذُل الغبن، وتبعد عنهم هوان الاسترقاق، لقد غرست العبودية نصلها في أرواحهم فنزفتْ، ولكنها لم تمت، وَلَمْ تفقد قدرتها على الفرح".
الكاتب ذكي بما يكفي، إذ لم يقدم لنا بطل الرواية علي جفون عبداً مقموعاً طوال حياته، وإلا وقع في مأزقٍ صعب، اضطر معه إلى تشريح الذات وتصوير الألم النفسي وعذاب الروح والجسد بطول الرواية وعرضها ما يوقعه في الإسهاب والتكرار ويوقعنا في الملل، وإنما قدمه لنا في صورة أخرى أقرب إلى الشاهد منها إلى الضحية، تاركاً مسافةً معقولة بينه وبين ضحايا الاسترقاق الآخرين وبينه وبين الجلادين ليوسع أمامنا زاوية الرؤية -بمهل- وفي أماكن عدة نزفت فيها أرواح أولئك الأرقاء الذين نسيهم التاريخ وأنسانا مآسيهم، مثل لول وزينب السيسبانة وعديلة وجيلان وغيرهم..

حسب الله قدم مرافعة تاريخية وإنسانية غاية في النضج أيضاً، فما جرى بين كتشنر ومارشان في ذلك اللقاء التاريخي على أرض فشودة، هو في حقيقته استعراضٌ أوروبي حضاري إن شئت، قابله الكاتب بنموذج آخر أكثر هدوءاً، أقطابُه (الرث-السلطان داك-الميجور جيفون) وأساسه الحكمة الإفريقية العميقة في أرض الشلك دون أن يقع في فخ المقارنة المباشرة/وما جرى بين كتشنر ومحمود ود احمد بعد موقعة عطبرة، هو في حقيقته انتصار لكبرياء المحارب السوداني نداً لند أمام الغازي المنتصر في صورة مغايرةٍ تماماً لما جاء في وصف المشهد ذاته عند الطيب صالح/وما جرى للمحاربين السودانيين وما فعلوه في أرضٍ غير أرضهم مثل فرنسا والمكسيك هو بلاءٌ طيب وحسن سيرة/وما جرى على ضفتي المعارك بين ثوار المهدية وغرمائهم -وهم وقودها على الجانبين- هو انضباط الجندية في أعلى حالاته، والذي لم يكن صاحب الراية الزرقاء ليحسن غيره حتى تمنى كل مَن رَآه ميتةً كميتته المشرفة دون أية اعتبارات أخرى غير الإخلاص للمهنة، فلم ينسب انتصاراتهم أو هزائمهم لغيرهم مثلما فعل التاريخ والمؤرخون/وبين يدي كل ذلك لم تخلُ القصة من مشاهد حميمة للحب واللهفة والرغبة والندم والحكمة مثلها مثل أي قصة إنسانية كاملة الأركان..
حسب الله أحاط بكل التفاصيل المهمة في العمل الروائي دونما إفراط أو إسهاب، كان مخلصاً للحكاية، مانحاً شخصياتها أدواراً في حدود إمكانياتها وزمانها، لكنه أيضاً ترك للقارئ ما يمكن أن يضيفه، اكتفى بوصف طول البطل علي جفون وهويته وترك لنا بقية التفاصيل، أعطانا الملامح العامة للمدن والبلدات في ذلك العهد وترك لنا تخيّل روائحها وشكل أزقتها وبيوتها، حدثنا عن "الجنود العبيد والعبيد الجنود" وتَرك لنا تصور حيواتهم السابقة واللاحقة، ثم ترك حبل النهاية على القارب ذاته الذي بدأت معه الحكاية، سابحاً على ظهر النيل ومنساباً مع جريانه الأبدي، كما ينبغي للأعمال الكبيرة أن تختتم.. 
وبمحبة، يقول عنها الصديق الروائي محمد سليمان الفكي: 
"
فشودة رواية عظيمة، عظيمة لأنها تلامس الفعل والمأساة على خلفية من الدماء والمعارك شأن القصص الكبيرات، لعلها الأشمل التي تحكي تاريخ الرّق في السودان، ثم بها حرفية روائية غاية في الإتقان في استخدامات الزمن والتصريح بالأسماء ثم الكشف عن شخصيات ذات ملامح لاحقاً في نتف، ثم في فراغات ثم في إكمالات".
إن كانت ثمة ملاحظة، فهي إغفال الرواية للجانبين السياسي والاجتماعي وتعاطيهما مع قضية الرّق، ففي الفضاء الزمني الذي تحركت فيه أحداثها، كان المجتمع المحلي الزنجي المستنزف يقاومها، وكذلك مارَس الإنجليز ضغوطاً هائلة على حكومة الخديوي في مصر لتجفيف منابعها ومحاربة المشتغلين فيها، ولعلها كانت إحدى المهام الرئيسية الموكلة إلى الجنرال تشارلز غوردون في كل من الإستوائية والخرطوم، وأحدث ذلك أثراً لا بأس به رغم مقاومة تجار الرقيق ومراوغة الخديوي إسماعيل وغضه الطرف عنها بسبب أزماته المالية المتلاحقة، وكان يمكن أن تغني الرواية وتمنحها بُعداً إضافياً، إلا أن ذلك لم يقلل من بهائها وشمولها الغالب..
على أي حال، كنتُ كلما وقعتْ بين يدي رواية سودانية سمعتُ أو قرأتُ عنها في مكانٍ ما، اعتقدتُ أنها الرواية التي ظللتُ أبحث عنها ثم لا تحدث، حتى وقعت هذه الرواية بين يدي عن طريق الصدفة المحضة، إذ تفضّل عليّ الصديق عبيد بوملحة -وهو روائي إماراتي وصاحب دار مداد للنشر- وأهدانيها ضمن هدايا أخرى رائعة له وللصديق محمد سليمان الفكي، ومنحني ذلك ثقة ورغبة إضافية لأسامركم حول الحكي وعوالمه اللذيذة الغامضة بين يديها، وما أتصور أنه العمل الروائي السردي كما ينبغي أن يكون..
قُدمت هذه الرواية إلى جائزة كتارا للرواية العربية في نسختها الأولى هذا العام، وأظن أنها ستجد حظها إذا قُرأت فعلاً، لكن المؤكد أنها ستظل مثار احتفاء النقاد ومحبي الأدب لوقتٍ طويل..

حامد الناظر؛ روائي سوداني مقيم بالدوحة

شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

إرسال تعليق