أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

آخر المقالات

المقالات

الاثنين، 15 ديسمبر 2014

سَمَر الخميس: رعشاتُ الفيتوري، وحالاتُه

حامد الناظر

شيء ما غريب يجذبك إلى الشاعر محمد الفيتوري وأنت تستمع إليه للمرة الأولى، وشيء ما أعمق من ذلك بكثير إذا رأيته يتحدث أو يقرأ شعره، ذبذباتُ صوته المرتعشة كأنما تأتيك من عالمٍ آخر يمور بالقلق والمواجع، تحسُّ لها صدىً غريباً في عَصَبٍ خفي داخل روحك، فيسري فيها تيارٌ غامض مُشعلاً عناقيدَ ضوءٍ داخل النفس كلها، يصل الروح بالروح فتُحبه..
وإذا رأيته تلمح ذلك الغياب العجيب في عينيه، ذلك الحزن الأبدي الذي لا دواء له، عيناه الجاحظتان قليلاً شاخصاتٌ إلى الأعلى كأنما يُحدّث السماء بحديثٍ موصول، شَعرُه الرمادي المجعّد بقايا حريق العُمر وألسنة لهبه الذابلة، رفرفت فوق روحه زهاء قرنٍ إلا قليلا، ثم ترى ذات الرعشة -التي في صوته وفي تقاطيع وجهه وتجاعيده الإفريقية الصارمة- وقد تحولت إلى حالة موتورة في أطراف أصابعه المعروقة، المرتعشة..
ولو أنك تخيّلتَ قلمَه مخنوقاً داخل قبضتها -لحظة المخاض- لأدركتَ كيف يتدفق ذلك الشّعر الحار إلى الورقة العذراء، ثم تقرأه وتشعر بفورة الدم في رأسك، وتسمع دقات الطبول ورنين النحاس وتعاويذ الخرافات قريبة إلى أذنيْك وقلبك، فتعيش تلك الحالة (المجنونة العاقلة) التي لا وصف لها سوى إنها الحالة الفيتورية التي لا شبيه لها في الشعر العربي المُعاصر.. 
وكم من قتيلٍ خطيئتُه في خُطاه 
وكم من مُحبٍ شهيدٍ تغطي بأكفانِ عِزته ومَشى
حاملاً راية الموت، نشوانَ في رقصةِ الموت
عريان، جوعان، حافي القدم..
ذلك الوميض المرتعش يغطي به الفيتوري كلماته العارية فتتوهج تحت الشمس، ولعلها حالة الصدمة الأولى في أزقة الإسكندرية وكتاتيبها حين حالَ (لونُه) بينه وبين الآخرين، تلك الصدمة أشعلت الجذوة داخل نفسه ثم امتد حريقها العمر كُلّه ولم ينطفئ، ماثَل في ذلك عنترة بن شداد وإيميه سيزار وليوبولد سينغور والمغني الزنجي بول روبسون وأعجب بهم أيضاً، لكنْ بحالته الإنسانية الخاصة، التي تشبه كثيراً حالة البطل "فيلكس دارفور" ذلك المنسي الذي عاش عبداً غريباً في مصر النابليونية وهو القادم ضمن قافلة للرقيق من دارفور عبر درب الأربعين، ثم رحل مع سيده الذي أعتقه إلى باريس ومنها إلى هايتي، صنع مجده الخاص، قفز على واقعه، تعلم، عمل صحفياً ومحامياً ومعمارياً ومناضلاً ثم انتهى به كل ذلك إلى الإعدام رمياً بالرصاص على أيدي البيض والملونين، وعنه يقول الفيتوري:
"
هذا هو الاسم البديل، القناع المزوق الذى نسجته الأقدار حول وجهه، والذى أخذ صورته ومعناه داخل دائرة التاريخ، وليس عندي أدنى شك، بأن اسمه المجهول ذلك الذى أسقطته سنوات العبودية وعذابات المنافى البعيدة إنما كان رمزاً حياً ومتفاعلاً مع أحداث عصره"
والحالة الخاصة التي خلقها الفيتوري لنفسه ولعالمه الشعري قريبة من تلك الحالة في معناها الإنساني العميق، وفي غربتها، لكنها أيضاً أخذت ثيمتها الخاصة بها لأنها ارتبطت بالشعر، فهي إن شئت تلك "الرعشة المقدسة" كما وصفها في مقدمة أحد دواوينه:
""
إن عملية الخلق الفني عملية خفية إذا صحّ هذا التعبير، إنها حالة انشطار الإنسان شطرين، حالة صراع داخلية، يسقط ضحيةً لها في أغلب الأحيان وجود الفنان الصناعي الخارجي ليرتفع فوق أشلائه ذلك الوجود الحقيقي الآخر الكامن أبدًا فيه، إلا أن الرعشة المقدسة التي تأخذ الفنان حينذاك يستحيل التعبير عنها إلا ضمنًا، ضمن هذا النسيج النفسي الفكري الموسيقي الذي يسمى بالقصيدة الشعرية."
وما من تفكيكٍ أفضل لما تقدم من أن تلك الرعشة التي قصدها هي حالة القدح التي تحدث بين الذاتي والخارجي ثم تُشعل الكون، ويبقى رماد الشاعر بذرةً لقصيدة أخرى كامنة، وهو بذلك إنما يَفْنَى ويتجدد جاعلاً من ذاته قرباناً مقدساً لحالة متأرجحة، غير ساكنة، جَسَدُ الشاعر فيها امتداد لقلقه النفسي وقلق العالم من حوله وليس شيئاً محايداً بمنأى عنهما، يصطدم بها ساعة ملاقاتها ثم يتشقق معها ساعة مخاضها، وتبقى حالة الارتعاش بعد ذلك تمثلاً دالاً عليها ساعة قراءتها والحديث عنها، وجسد الفيتوري هو مأساته، لأنه حمل خصائص اللون والرائحة إلى أولئك الآخرين، تعذب به، انتمى به ثم صنع معه مجداً..
"
إن الشاعر بغير العوامل الثقافية والمؤثرات التي تحرك التاريخ يعزل نفسه عن حركة الحياة، وكثير من الشعراء ماتوا لأنهم ظلوا داخل قواقعهم الذاتية - ماتوا لأنهم ظلوا بعيدين عن الشمس والهواء."
قُدر لي، ولعلها لحظة نادرة أن أرى طيفاً عابراً من تلك الحالة الغربية للفيتوري، لبرهة قصيرة تلاشت بعدها ولم تكتمل، كنتُ شيئاً ضئيلاً ضائعاً بين السيقان العملاقة التي تدافعت لتشهد سطوع شمسه في أفق تلك الليلة، كان ذلك في ختام مهرجان الثقافة الرابع في خريف عام ١٩٩٧ بالمسرح القومي بأم درمان حين حلّ ضيفاً فاخراً على فعاليات المهرجان لتكريمه، في تلك الليلة منحه الرئيس وساماً رفيعاً، ثم صعد الفيتوري إلى المسرح وفي يده ورقة صغيرة مجعّدة كتب فيها بيتين أو ثلاثة من الشعر ارتجله على خشبة المسرح:
هذا وسامُك ملء السمع والبصرِ
وذي أياديك بيضاء، آفاقٌ من المطرِ
هذا ما علق في ذهني من تلك الأبيات القصيرة المرتجلة، لكن ما علق به أكثر هو "رعشته المقدسة" التي رأيتها رأي العين، تهزّ روحه وحبال صوته الممتدة بين أوجاعه وأصابعه وبينهما الورقة الصغيرة -مهد القصيدة- التي فاجأت -بمخاضها- الشاعر والجمهور، ثم تلاشت الحالة بالتدريج مع صخب المسرح وترهات السياسيين وخطبهم الجوفاء، ولعلها لم تعد لتكتمل تلك القصيدة اليتيمة التي ضاعت وسط التصفيق والهتاف الفج، ولا أعرف ماذا حدث بعد ذلك..
على أي حال، تلك واحدة من اللحظات التي تعبر ذاكرة العمر، ثم لا نذكر كيف ولِمَ حدثت؟ لكن ما يهم هو أنها علقت بسقف الذاكرة وتركت في النفس رغبة غامضة لاكتشاف عالَم الفيتوري، المضطرِب والقلِق..
"
أصنع البذرة عن سابق وعي (سواء كانت سياسية أو اجتماعية)، ثم أنتظر بعض الوقت حتى تزدهر فيّ، كما في باطن الأرض لتبدأ تتشقق في داخلي، وتشقني في نفس الوقت، ثم تبرز شيئًا فشيئًا حتى تأخذ شكلها الخارجي الذي سوف تواجه به الآخرين"..
وأولئك الآخرون المتعددون ظلوا -بطبيعة الحال- غاية الفيتوري مثلما هم غاية كل الأدباء والكُتاب، لكنه -نتيجة إسقاطات مؤلمة تشظت معها نفسه- كأنما قرر ألا يكونوا شيئاً محايداً يخاطبه وينشد وده فحسب وإنما امتداد لروحه الصوفية المعذبة المشققة، ولعلّ حالةً من الحيرة اعترت الفيتوري أول ما بدأ، كيف يمدّ سحائب العذاب بينه وبين أولئك العراة والحفاة والجوعى في المستنقعات الإفريقية الموحشة، كيف يجعلهم الآخرين الذين يكتب لهم؟ ومن ثمّ كيف يجد تلك اللغة الصافية التي تغسل أوجاعهم وأحزانهم ويفهموها؟:
إفريقيا، إفريقيا النائيه
يا وطني، يا أرض أجداديه
إني أناديك، ألم تسمعي
صراخ آلامي وأحقاديه
إني أناديك، أنادي دمي
فيكِ، أنادي أمتي العاريه
إني أنادي الأوجه الباليه
والأعين الراكدة الكابيه
فويْكِ، إن لم تحْضني صرختي
زاحفة من ظلمة الهاويه
لم تكن اللغة ذلك الحاجز الذي تخيله بدءاً وأصابه بالارتباك، وبالشك، وإنما الحاجز الحقيقي كان ذاتياً، نفسياً بمعنى أدق، كونه تلقى الطعنات الأولى في هويته من ذات المحيط الذي ذاب فيه، يتحدث بلسانه ويكتب، فظنّ -وهذا الظن إثمٌ من عندي- أن استخدام لغته إنما هو تذكيرٌ قاسٍ بصهيل سياط الجلادين التي نهشت الجسد الإفريقي ردحاً من الزمن كما نهشته سياطٌ أخرى من أرض الصقيع..
"
هل لأني أكتب باللغة العربية يجب أن أنفصل عن ترابي، عن ذاتي؟ إنني لا أومن بوجود أي تناقض بين أسلوبي كعربي ورؤيتي كإفريقي"
"
إنه أسقط مأساته الخاصة (السواد والزنوجة والفقر والتشرُّد) علي مأساة قارّة بأكملها" هكذا قال محمود أمين العالم، ولعله نظر إلى الأمر من أعلى فلم يفهم حالات الفيتوري الغامضة على حقيقتها، مأساة الفيتوري كانت امتدادا، كانت مأساة الإنسان..
محمد الفيتوري، شاعر سوداني

على كل حال، نجح الفيتوري أيما نجاح في إضافة النكهة العربية إلى الوجع الأفريقي الممتد، وألغى تماماً ذلك الحاجز الذي توهمه وتوهمه غيره أيضاً ثم سدر في الدروب بين "الغابات والصحراء" صاعداً ونازلاً حتى خلق ذلك العجين السحري الذي يشبهه، برعشاته وقلقه وآلامه، ثم انطلقت روحه في فضاء الشعر وتوهجت قصائده وتحررت، وتفهّم حالته الأولى بعد نصف قرنٍ من الحضور، ما حسب أنه منفصل وجد سقفه متحداً متصلاً، وعوامل تخلفه متقاطعة تنبع من قبحٍ متشابه..
"
المشترك بين الرؤيتين الأفريقية والعربية، كما أتصورها، يتعلق بالخواء وانعدام الحرية، والقيود في الأرجل، والسلاسل في الشفاه"
حالة أخرى، هي نرجسية الفيتوري شديدة الغموض، فهو يسفه ويقلل أحياناً من أهمية ومكانة شعراء جيله، فأحمد عبدالمعطي حجازي في نظره ليس شاعراً بالمطلق، والبياتي كذلك، ومحمود درويش ليس شاعراً ولكن القضية جعلت منه شاعراً، ونزار قباني شاعر في خدمة الآخرين، وهي حالة غريبة فسّرها صديقه طلحة جِبْرِيل بالاعتداد، بزهو الفيتوري المفرط بشاعريته، وإن كنتُ أظن أن هناك أسباباً أخرى يعرفها الفيتوري ولا يفصح عنها.
حيواتُ الفيتوري غنية ومتعددة، عاشها صوفياً وشاعراً وإنساناً وصحفياً ودبلوماسياً، حالاتٌ من الشك والحريق والوحشة والغموض والتصوف والتمرد والغربة في ذاته وفيما حوله، وركن أخيراً -مع صدأ العُمر- إلى حالة صافية، مزدهرة وهو يجاور الأطلسي -في ضاحية "سيدي العابد" التي ترقد على خد المحيط مثل شامةٍ وسيمة، رفقة زوجته المغربية وابنته أشرقتْ- قبل أن يفصله المرض عن "عوالمه اللامرئية والشديدة الغموض"، هناك ولد آخر دواوينه "عرياناً يرقص في الشّمس" وكأنه الرعشة الأخيرة التي احتفت بالحياة بطريقة كاشفة، ومدت ذبذباتها العذبة من أول العمر إلى آخره:
"
لم تجئْ مثلما حلمتْ بك دنياك
قبل انطفاء عيون الدُّمى
واشتعالِ جلود القرابين
جئت سماءً من الشفق القرمزي
عُرياناً كالشمس، مختبئاً في معانيك
خلف زجاج العيون ومنحنيات المرايا 
مثل روح بدائية لبست شكلها الميّت الحَي 
ثم مضت تتحسس غربتها في وجوه الضحايا
مثلما انحفرت في عظامك..
وصفه الدكتور فاروق شوشة بأنه "واحدٌ من المغنين العظام في قافلة الشعر العربي"، وقد صدق، "فحزنه كبير، وموسيقاه جنائزية، تصدح إيقاعاتها خافتة وزاعقة!"
ولا أظنني أحببتُ شاعراً من شعراء الحداثة مثلما فعلتُ مع الفيتوري، ولعل الحالة الأهم التي لا يعترف بها هو نفسه والتي حببتني فيه، أنه فيلسوف وحكيم، كل قصيدة من قصائده بابٌ إلى عالمٍ لا متناهي من الحكمة والجسارة والتأمل، "أفنى حياته وهو يحدق -متأملاً- في هوة لا قرار لها، حدق فيها كثيرون من قبله فأسلمتهم إلى حافة الجنون"، فصلتهم عن عوالمهم، لكنه حالة خاصة عصية على مثل تلك المصائر، ولو لم تنتخبه لنا شاعراً لربما انتخبته فيلسوفاً أو نبياً، غامض الوحي وعميق السحر.. 
بعضُ عُمرك ما لم تعِشْه، وما لم تمَتْه، 
ومالم تقلْه، وما لا يُقالْ
وبعضُ حقائق عصرك أنك عصرٌ من الكلماتِ
وأنك مستغرقٌ في الخيالْ..
حامد الناظر؛ روائي سوداني مقيم بالدوحة

شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

إرسال تعليق