أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

آخر المقالات

المقالات

الخميس، 25 ديسمبر 2014

سَمَرُ الخميس: شوق الدرويش، لعنةُ المحبة

حامد الناظر
لعلها أيام الروايات التاريخية بامتياز، وقد كانت لطيفةً ولا شك، قضيْتُها في نزهةٍ جميلة في زمنٍ بعيدٍ لم يكن زمني، ولكني عشته على كل حال مثلما أرادت لي الحكايات الجميلة، بين الترك والجند والعبيد والدراويش والمبشرين، وبين روائح الجروح والأزقة العطنة والخرافات التي لا تحدث ولا تنقضي، قرأت فيها فشودة الباذخة، قصة البيمباشى علي أفندي جفون كما حدثتكم، ومن بعدها عاودني الحنين إلى صديقٍ قديم هو تشينوا أتشيبي وأشياءه السوداء المقدسة التي تداعت تحت وطأة ذلك البياض الغريب -الذي نزل بها وبأرض أوموفيا كالبرص- ثم محاها كما لو أنها لم تكن قائمةً أصلاً، دون عزاء لـ أوكونكو المتمرد المخلص، لكن تلك قصة أخرى..
انتهت الأيام الصاخبة بحمور زيادة الذي أرهقه كذلك هذان اللونان العسيران فأرهقني، عبثية الأقدار في حكايته جعلت منهما كالزيت والماء يرسب هذا ليطفح ذاك مع تقلب الحالات بين النصر والهزيمة دون أن يذوبا في بعضهما، أو يمشيا مشوار الحياة جنباً إلى جَـنْـبٍ في سلام، حتى تصدى التعيس "بخيت منديل" لهذه المهمة الحضارية العسيرة فلم ينجح كما أراد ثم لم يسكن شوقه الغريب -في مكانه وزمانه- بالسجن والثأر والدم إلى أن انقضت الرواية..
شوق الدرويش مربكة، كل شيء فيها لا يكاد يستقر على حال حتى يتحول إلى شيء آخر، الإيمان إلى غلو والحب إلى دين والحريّة إلى قمع والإخلاص إلى خيانة، وهي كذلك مخاتلة، لم تُسلمني نفسها كما تمنيت، راوغتني بمتعةٍ غامضةٍ متّصلة، بل بشيء مثل السحر لا يجعل لـ "اللّذة" ذروةً ومنتهىً وإنما حالة لا متناهية من اللذات تأسر القارئ وتمسك بتلابيبه دون أن يقضي منها وطراً، تماماً مثلما حدث لبخيت مع أسطورته البيضاء المستحيلة ثيودورا، فهل ينبغي للروايات الناجحة أن تنقل العدوى؟!
لعلّ السر لا يكمن في الحكاية الجميلة وحدها وإنما في أشياء كثيرة، ولا أعرف أي شيطان أوحى لكاتبها ليتّبع مثل هذا التكنيك السردي المربك والأخاذ في آنٍ معاً؟ وكأني به -بعد مشاهد السجن الأولى- أخذنا إلى بيتٍ قديم، صدئ الأبواب لم يُفتح منذ مائةٍ وثلاثين عاماً، تسكن أشياؤه الصاخبة تحت طبقةٍ كثيفةٍ من الغبار والعتمة، وبَدَل أن ينفضَها أمامنا واحدةً بعد أخرى دلق عليها الماء والضوء -كلها- دفعة واحدة ثم حدثنا عنها كيفما اتفق دون تسلسلٍ أو ترتيب، تاركاً لأذهاننا هذه المهمة الشاقة..
حمور خلخل الزمن في هذه الرواية بطريقة جريئة، وروى الأحداث من دون ترتيبٍ زمني معتمداً على القطع المفاجئ والقفز الحر من زمنٍ إلى آخر بطريقة تكاد تكون عشوائية لكنها رشيقة متقنة، وهو على أي حال تكنيك ممتعٌ وخطرٌ في آنٍ واحد إذ إنه مُجهِد للقارئ غير المتمرس على فنون الحكي الروائي وقد يغادرها مع أول تشابكٍ للمشاهد في ذهنه، لكنه يُبقي القارئ الفطن متيقظاً مشدوداً وحاضر الانتباه حتى نهاية الحكاية، ليتمكن بعد ذلك من تركيب أجزاء الصورة التي تتمدد في خياله على رقعة زمنية ومكانية واسعة، ولعله خيراً فعل إذ كسر رتابة الحكي بطريقة هزّت أنماط السرد السائدة وأشركتْنا معه في صناعة الحكاية الطويلة المرهقة..
أظنه حاول أن يماثل ذلك الزمن المجنون الذي عاشه السودان نهايات القرن التاسع عشر بحماقاته كلها، بإيمانه المطلق بمهدي الله ودعوته وخليفته، بسذاجة مبشريه وانتهازية مستعمريه ووحشية عوالمه المطحونة بفعل العبودية والفقر، وبحالة الصدمة العميمة التي خلّفها الهوس بالدِّين والقمع والجوع والظلم والقتل في شأن الله أو في شأن غيره "احذر الإيمان يا ولدي، فمنه ما يُهلك كالكفر" وكأنّ الكاتب يبحث وسط هذا القبح الشامل عن الحب ليقدمه كشيء جميلٍ أوحد حدَث، لكنّه أبى إلا أن يشبه زمنه أيضاً، فجاء مجنوناً ومتناقضاً ووحشياً "لا تحب بعنف لأنك ستتألم بعنف، لا تحب، كي تخرج سالماً لا لك ولا عليك!"
شوق الدرويش كما قرأتها قصيدة طويلة في شأن المحبة، لكنها محبة ممسوسة، فيها لعنة غامضة، فكل ما جرى من بشاعاتٍ وألمٍ ودماء كان باسم المحبة، ما حدث للإمام وخليفته وأتباعه كان بدافع وغاية المحبة، ما عذّب بخيت منديل والحسن الجريفاوي وفاطمة ويوسف أفندي ونفيسة ومريسيلة وغيرهم هي المحبة، ما جاء بالعصفورة ثيودورا ورفاقها المبشرين المؤمنين لم تكن إلا المحبة، حتى حين أكلت "عَطا مِنّو"/أم مريسيلة رضيعها الصغير لم يكن جوعاً محضاً بقدر ما فهمتُه محبة، تماماً مثلما تأكل القطة صغارها خوفاً وشفقة..

قرأت بعض الآراء حول هذه الرواية منذ صدورها، أغلبه في صفها وبعضه تعمق أكثر في تفاصيلها فطالبها بكمالٍ يبدو عسيراً، وكشأن الأعمال الحية الناضجة فإنها أثارت ذلك الجدل المهم ولا شك، سواء في ترسيخ صورة نمطية مشوهة ظل السودان أسيراً لها خاصة في الذهنية المصرية كما ذهب البعض، أو فيما اعتُبر محاكمةً للتاريخ وتعريةً منحازة لفترة حكم الخليفة ود تورشين كما اعتبر آخرون، وأياً ما يكن فالكاتب ليس مطالباً بأن يثبت شيئاً أو ينفيه، أن يتخذ موقفاً من التاريخ أو ينسجم معه فتلك ليست مسؤوليته، إنه -فقط- مطالب بالكشف عن مثل تلك العوالم التحتية الموازية وتقريبها من السطح، بفتح الجروح بقيحها وصديدها لعلها تبرأ وتجفّ تحت الشمس، ولا بأس -في خضم ذلك- من إضاءاتٍ صغيرة هنا وهناك على الجوانب المشرقة في مجتمع تلك الفترة، إذ لم يكن كله إما عبداً أو قاتلاً أو مومساً أو انتهازياً، كان المجتمع كشأن المجتمعات الإنسانية الأخرى منطوياً على نماذج متباينة فيها الخير والشر، ولو أنه فعل لكفى نفسه عنتاً كثيراً..
لغة الرواية كما لاحظت ليست مترهلة، إنما جزلة محكمة وجميلة أيضاً، لكنها قلقة ومتعجلة في نقلاتها من جملة إلى أخرى، من حوارٍ إلى وصف، من استفهامٍ إلى استدراك، من سؤالٍ إلى جواب، تشبه زمن حكاياتها كثيراً حيث كانت جملة قصيرة مبتورة، كلمة، بل نصف كلمة يمكن أن تودي بصاحبها إلى السجن أو حبل المشنقة دونما روية، كان الكل يرى في أفعاله الناقصة وأحكامه المتعجلة خطوة في طريق الإيمان المطلق بدعوة المهدي وحتمية تمامها شرقاً وغرباً، أو خطوة في الاتجاه المعاكس بأنها محض دروشة زائلة واتّباعٌ أعمى لإمامٍ معتوه، وبين هذا وذاك وجدتني معجباً بحالة الحسن الجريفاوي الاستثنائية، أبهرتني بذلك المزيج المتكافئ من الشك واليقين في زمنٍ لم يكن يحترم إلا الحد الأقصى في كل شيء "لكنه في المهدية ولغ في الدم وخاض في الموت، لماذا يرفض الناس العدل؟ ولماذا ينشر العدل الظلم؟ ما عادت الأمور واضحة، المهدية حق لا شك فيه، كيف ينكر المهدية وهي رسالة الله؟ لكن ما بال رسالة الله تنشر الموت؟ في عهد التركية كان مؤمناً مظلوماً، وحين شرح الله قلبه للمهدية صار ظالماً شاكاً، أين الحق؟"
لو أن ثمة ما يلاحظ فهو تصدير الفصول وبعض مقاطع الحوار بآياتٍ من القرآن والإنجيل وأقوال بعض الحكماء والمتصوفة في مواضع كثيرة من العمل، ولعلّ التأويلات النصية المقدسة لم تكن ضروريةً إلى هذا الحد ولم يكن الكاتب مطالباً بها، النص من دونها أكثر رشاقة وأكثر إنسانية في تفسيره للمواقف والمشاهد وقد كانت مفهومة دونما حاجة إلى تلك الإشارات، عدا ذلك فالرواية -في ظني- على قدر كبير من الجرأة والمتعة وإثارة الأسئلة..
على أي حَال هذا شأن القصص الكبرى، ومخطئٌ من يظن أنها وصلتنا مثلما خطرت لصاحبها، وأنها كلفته عناء كتابتها وتسويدها على الورق بعد أن رسمها في مخيلته بدقة، ظني بهذا العمل أنه أنجز قطعةً قطعة، وتاه صاحبه زمناً في مستنقع الألم الذي تخيله قبل أن يكتبه، ثم في أثناء ذلك عبَرَ متاهاتٍ من الرهق والقلق والإحباط والجَلَد واللهث وراء الشخصيات العنيدة والغريبة والأحداث المتداخلة المبهمة، ومرّ كذلك بلحظات نشوةٍ وحماس ونصر حتى جاءنا بقوسه وسهمه كأحد الفرسان القلائل الذين يستحقون الألقاب، وهو على كل حال من جيلنا الموسوم دائماً بالكسل والفراغ وقد انتصر لنا وأطال أعناقنا على نحوٍ مثيرٍ للزهو..

حامد الناظر؛ روائي سوداني مقيم بالدوحة

شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

إرسال تعليق