أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

آخر المقالات

المقالات

الخميس، 4 ديسمبر 2014

سَمَر الخميس: يكتبها حامد الناظر


حامد الناظر
إنما فوزي، لا يَطلبُ المجد


وفوزي بُشرى كالحكيم بين الحمقى، وإن شئتَ -بهدوء- صوتٌ صحفي نادر المثال، ليس لكونه حذقاً أو مجيداً للصنعة، لكن لكونه مجدداً، وليست ثمة مبالغة في ذلك، إذ درج خلعُ هذا التوصيف على أصحاب الأفكار العظيمة والتحولات الكبرى، لكنّ فضاء الأخبار لم يعد تلك الحالة العابرة المحايدة التي لا صلة لها بالمشاعر أو المصائر، بل أصبح فضاءً يصنع التحولات الكبرى ذاتها، وتضج عناوينُه الصغيرة العاجلة والمبتسرة بالأفكار العظيمة إن كان الناس قد أحسنوا قراءتها وقراءة ما وراءها وأمامها، وبالتالي أصبحتْ جزءاً من أدوات التغيير وغيّرتْ -وإلى الأبد- جلدها الرمادي البارد المحايد، لتلبس ألواناً حارة مليئةً بالصخب والغموض..
"كنا في شوارع المدن التونسية، كنا حاضرين أيضاً في ميدان التحرير، والأصوات تصلنا في لحظة صعودها إلى السماء وفي لحظة وصولها إلى المعنيين بها، وما كان على الصحفي إلا أن يتمثل تلك الأحوال، أحوال الثائرين والمناضلين ويعيد إنتاجها"
والحديث لفوزي في مقابلةٍ على شاشة الجزيرة، وقد هَدَتْه حكمتُه إلى ذلك الحبل السُّري الذي بات يربط بين الخبر وصداه، بين النص الساكن والمعنى المتحرك، فخرج بالتقارير الإخبارية من أنماطها الرتيبة إلى فضاء الحيوية، ربطها بالمشاعر وحركة الحياة، ثم قدمها إلينا -بصوته الدلالي العميق- مشفوعةً بأفضل الاقتباسات مما نؤمن به ونحبه في اللغة والدين والحكمة والشعر، ثم عمد إلى تقطيع الصور وتركيبها بما ينسجم مع حركة التاريخ في آفاقها الرحبة ماضياً ومستقبلاً، وموقعنا فيها وأحلامنا وخيباتنا كذلك بمزيجٍ من الحكمة والسخرية اللاذعة:
"اليوم نُنَجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، مصيرٌ سبق إليه الشهر الماضي الرئيس التونسي الذي لم يجد من الهرب بداً فنجا هو الآخر ببدنه، تاركاً أمثولة بأن الشعوب أبقى وأقوى من الطغاة متى صحّ منها العزم.
وإن مثَل مبارك في شعبه كمثل زين العابدين إذ قال له شعبه: أصلحْ، فأبى أن يكون من المصلحين، ألا بُعداً لمبارك، وبعداً لزين العابدين!! قال الشعبان الثائران"
أيُّ أحمقٍ من "حراس البوابات" الكثر، أولئك الذين تمتلئ بهم قاعات الأخبار في كل مكان، والذين يفهمون لغتها كما يفهمون إعلانات المحاكم وإشهاراتها الشرعية ستزعجه مثل هذه اللغة، ستربك حواسه المصبوبة الجامدة، وإذا قُدِّر أن عُرض عليه مثل ذلك النص قبل بثه سيُلقي به في قاع المزبلة دون أدنى شك، أو ربما عَدّل فيه على أسوأ تقدير ليبدأ بدايةً باردة بائسة لا تنسجم مع الحدث وحرارته، ذلك لأنه اعتاد أن يسمع التقارير الإخبارية ويحررها كما يسمع خُطب الجمعة وبيانات الدواوين الرسمية..
 
كل ذلك لا ينفي أو يتناقض مع القاعدة الذهبية لنقل "الخبر المقدس" وهو كذلك بالفعل، لكن التقارير الإخبارية شيء مختلف، أو هكذا ينبغي أن تكون بعد عقدين ونيّف من التجربة التلفزيونية المفتوحة في الفضاء العربي الذي آن الأوان لأنْ يأتي بآياته وحكمته في الآفاق، إنه أشبه بالحكاية الموجزة، بمكانها وشخوصها وزمنها ولغتها، ومن قبل ذلك -بالتأكيد- بكاتبها الذي هو العدسة الحقيقية التي تتنقل من مشهد إلى آخر برؤية وفكرة، وبالمشاهد الذي حلّ محلّ القارئ وأصبح ينشد المتعة والمعرفة والتزجية، وبالتالي فإن الصحفي كاتب التقارير هو روائي من نوع خاص ولا يجوز إخضاعه لما يُخضع له كُتاب نصوص الأخبار المجردة الذين يملأون قاعات الأخبار ويسببون لها الهياج والحكاك المستمر مثل جيوش القمل..
"نحن نرى ونسمع مع الناس في لحظة وقوع الحدث، ومعايشته للقاعدين في المكان وللمشاهدين على آلاف الأميال هي لحظته أيضاً، تقع حالة الاشتراك في المشاعر، حالة المشاركة النفسية، كنا نستنشق الغاز المسيل للدموع ونحس بدوي الرصاص والقمع وكل شيء"
والحديث أيضاً لفوزي، ولعلّه لم يبالغ، ولعلني كذلك لم أبالغ حين قلت لكم ذلك، ويجدر بي هنا أن أقتبس بعضاً مما كتب الدكتور أ. بروتيسكي مؤلف كتاب "الصحافة التلفزيونية" والمترجم إلى العربية بواسطة الدكتور أديب خضّور من سورية، يقول الكاتب تحت عنوان فرعي في الكتاب (النص أو السرد الرواية):
"هناك صلة ضرورية بين الصورة والكلمة، الكلمة التي تنطق على الشاشة تلعب دوراً مساعداً، وهي بالتالي تعتمد على، وتخضع للصورة، وهكذا فإن المهام الإبداعية للكلمة في التقرير مختلفة تماماً عنها في الصحافة المكتوبة والإذاعة"
وبعدُ، يُحمد لفوزي أنه قياساً على ذلك أو غيره، نقل التقرير التلفزيوني من مجرد الإخبار العابر بالحدث إلى ما يمكن تسميته بتوصيف الحالة، الحالة لحظة وقوع الخبر، الحالة التاريخية -قريبها وبعيدها- التي طورته إلى الذروة، ثم الحالة التي سينحدر إليها في الأفق المرئي وغير المرئي، وهو بذلك يصنع فضاء هائلاً أمام خيال المشاهد تتحرك فيه الشخوص والأحداث والزمن وتبقى سابحةً فيه بحالاتها الثابتة والمتغيرة..
"فاز أوباما" جملة ستشق التاريخ في الولايات المتحدة إلى نصفين، ما قبل فوز أوباما وما بعده، به يستعيد الحلم الأمريكي من جديد عنفوان وجوده الذي ظُنّ أنه مات أو كاد، فيما دكته بوارج بوش في حروبه المتعددة.......
 
أوباما بفوزه بدد ذلك الوهم، فالنداء الجديد أن تبحثَ كل أمّةٍ في أوباماها وهي مباحثُ في إنسانيتها بمقدار ما في سياستها وثقافتها وصميم ذاتها"
فوزي، ورغم كل ذلك الحضور قرر أن يختلي خلوةً قسرية، إذ ترك غرفة الأخبار في قناة الجزيرة لما يقرب من عامين، مُغاضباً أو محبطاً، لا يهم، فغضب السّود على مرّ التاريخ ليس غضباً وإنما بطَرٌ أو تَنطّع، المهم أنه ترك محرابه الأول ولا أحد يعرف على وجه الدقة مَتَى يعود، ليكمل تأملاته العظيمة في فضائل الأنام ومصائر الحكام..
"فاز آوباما، وليس له من قبيلٍ كثيرٍ يأوي إليه، امرأتان هما والدته آن دنهام وجدته مادلين دنهام وجده ستانلي دنهام، هل التأريخ ابن الصدفة؟ هل كانت الولايات المتحدة لكي تتصالح مع ذواتها المتعددة أو قل مع ذلك الجزء الأسود من ذاتها بحاجة إلى أن تنتظر كل ذلك الوقت؟ حتى يأتي الغريب المنقذ فيقضي وطراً من امرأة بيضاء ليفتح الـتأريخ أبوابه؟"
ولعلّ الأسباب كذلك بائنة، فبالرغم من حالة الزخم التي ملأت فضاءنا -نحن معشر المشاهدين- بالمحطات الإخبارية وغير الإخبارية، وبالأسماء الرنانة والوجوه المليحة، إلا أن واقع التجربة كشف عن جعجعة عظيمة، طحينها غبارٌ، وصحراؤها ممتدة، سرابٌ خادعٌ مقيمٌ في أفق شاشاتنا رغم تزايد قوافل الظامئين، الذين هم نحن أيضاً..

الإعلامي السوداني فوزي بشرى
حالة مؤلمة من التشويش، ومن بؤس التجريب جعلت من فضاء الأخبار لعبةً مسلية، ومن جمهور المشاهدين قطيعاً من الدهماء، لعبة ناعمة يقودها بعض المقامرين واللاهين بالمهنة العتيدة الوقورة، ذوَى معها ذلك البريق الأول الذي حسبناه متصل الوهج فجلسنا على الرصيف نرقب بزوغ فجره، ثم فجأة بدأت حملاتُ التجفيف على أشدها، وتراجع ذلك الوهج القهقرى إلى آخر النفق بوميضٍ متقطع حتى خبا، وزحفت على الشاشات رغبات عابثة حولت المشهد كله إلى كتل متناحرة من الأمصار العربية القديمة والجديدة ببؤسها المقيم، وأشياء أخرى لا تقال..
ولعلّ مراكز الجذب المهمة في كل ذلك هي مناصب مديري الأخبار، هم في محاريبهم تلك، الأنبياء المعصومون الذين يعلَمون المؤمنين والمنافقين، هم أصحاب الوحي الذين لا يخطئون التقدير في أي مسألةٍ تتعلق بوحدانية رؤيتهم وقدسيتها، وفي مقدمات الأخبار ونتائجها، مركز الأخبار بكل صخبه وحرارته قطعة شطرنج باردة تحت ناظريهم، وحدهم دائماً في جانب، والآخرون جميعهم في الجانب الآخر، مؤيدون وخصوم وأشباه خصوم ومندسون وحمقى، أما الحمقى فهم أولئك المؤمنون بالمهنة كالعقيدة المقدسة، وهؤلاء وجودهم ضروري، واستسلامهم كالموتى مهم..
كل تلك الحفلة مقامة أساساً لهؤلاء الحمقى، إن أطاعوا فإنهم يرفعون -بلا وعي- قدر نبوءاتهم في الملأ العظيم فيَعِدونهم بجنةٍ لا رائحة لها ولا فيئ، وإن عصوا فإن كل الأحاديث الصحيحة والمتفق عليها والتي وضعتهم في بقعة النور تتبدل فجأة وتقوم مكانها أحاديث ضعيفة ملفقة، تدفعهم دفعاً نحو جحورٍ مُقفرةٍ طوعاً أو كرهاً، وفي أحسن الأحوال تشرع في وجوههم نوافذ المقايضة ومزادات الانتقالات لتضمهم رقعة شطرنج أخرى، وهكذا..
لعلي لا أقصد أحداً بعينه فيما تقدم بقدر ما أقصد الحالة العامة التي تتأبّى على التجديد والتقاط الأفكار الجيّدة الطازجة، بل تحاربها مثلما تُحارب الأديان الجديدة ويقاوَم الأنبياء والمصلحون كما يعلمنا التاريخ..
لا أظن أن مكاناً آخر -مهما علا سقفه- مهيئٌ الآن ليحتمل قامة فوزي بشرى وجرأته وحماقاته اللذيذة إن قرر الترك، وفي الترك راحة، لكنه في قرارة نفسه قد لا يفعل، سيبقى هكذا معلقاً بين تأملاته الكبرى وفضاءاتها الغامضة، وسنبقى نحن بجوعنا ذاته إلى أن يجيئ مُلهَمٌ آخر، بمثل ما جاء به في دين الصحافة التلفزيونية..

حامد الناظر؛ روائي سوداني مقيم بالدوحة

شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

إرسال تعليق